منوعات

مرهم الكآبة

1
(2)

لم يشعر الحاج ( س ) يوماً بالفراغ أو بالنقص مع أنه أتمَّ الستين من عمره بلا زوجة ولا أولاد ولا أحلام ولا طموحات ممكنة، فلقد تعوّد منذ عشرين عاماً أن يقضي جُلَّ يومه في بقّالته المتواضعة التي كان يرتادها القليل من الزبائن، ومع تطوّر الحياة وانفتاح البلدة على حياة المدينة أخذ الزبائن يتناقصون شيئاً فشيئاً ليصبح دخول أحد الأشخاص إلى بقّالة الحاج ( س ) حدثاً مهماً وجديراً بالتساؤل، ولو افترضنا أن أحداً من الناس دخل إلى البقّالة فمن المؤكد أنه لم يقصد ابتياع بعض المواد التموينية وإنما يريد بــكــل تأكيد الحـصـول على مرهم الــكــآبــة العـجـيب !

لا أحد يعرف منذ متى أصبح الحاج ( س ) يبيع هذا المرهم ومن أين يحصل عليه وهل يحضّره بنفسه وكيف، ولا أحد يريد أن يعرف من الأصل، كل ما في الأمر أنَّ جميع سكّان البلدة لاحظوا أنَّ بعض الأشخاص يتوافدون إلى بقالة الحاج ( س ) بشكل دوري لشراء هذا المرهم بسعر رمزي يرفض الحاج ( س ) أن يرفعه مع أنَّ الناس توقفوا عن الموت وبالتالي توقفوا عن الحزن والخوف من المجهول الذي يتربص بهم..

كانت مفاجآة غريبة ولا شك، هكذا وبعد مرور بضعة أشهر اكتشف أهالي البلدة أنهم لا يموتون مثل سكان القرى المجاورة، كانوا يمرضون أمراضاً مزمنة ولكنهم لا يستطيعون أن يموتوا، ولا شكّ أنَّ هذا الحدث الغريب جعلهم يطلقون التعليقات الساخرة تعقيباً على هذا الحدث، فهناك من قال إنَّ قابض الأرواح أضاع سجّلات هذه البلدة فتأجل موت سكانها إلى إشعار آخر، ومع توالي الأيام وتعاقب السنوات اكتشف الأهالي أنّهم غير قادرين على الحزن ولا الخوف كيف لا وعدوهم الأكبر وهو الموت في سباتٍ عميق أو في غيبوبة مؤجلة، لكنّهم لم يستطيعوا الحياة دون حزن، تحوّل الفرح في الطرقات إلى عملٍ رديء وباهت، لا يستطيع الإنسان أن يعيش بدون حزن فبالحزن والخوف وحدهما يستطيع الإنسان أن يفلسف وجوده وأن يفهم كنه الطبيعة ومغزى الأشياء وفي هذه اللحظات ظهر الحاج ( س ) بمرهم الكآبة.

مرهم الكآبة هذا أصفر اللون، لا يوجد له طعمٌ ولا رائحة، ولا يمكن الحصول عليه أو حتى مشاهدته إلا في بقّالة الحاج ( س )، ومع أنّه في البداية أثار فضول الناس واستغرابهم إلا أنه بعد مدة أصبح شيئاً بديهياً ولم يكّلف أحد نفسه عناء مشاهدة المرهم أو شرائه سوى بعض الأشخاص الذي أخذوا يملّون بسرعة من الفرح والسعادة فيسارعون إلى شراء هذا المرهم ويدهنون به أي منطقة من أجسادهم وبعد عشرين دقيقة يبدأ مزاجهم بالتعكّر ويشعرون بالضيق يطبق على صدورهم وتستفزهم شهوة غريبة للبكاء وبعد نصف ساعة يبدأ مفعول المرهم بالتناقص ويعودون إلى حالتهم الطبيعية يضحكون ويغنّون، لكنَّ هذا المرهم لم ينجح في دفع الناس إلى الموت مع أنَّ كثيراً من الأشخاص الذين تعاطوه تولّدت لديهم رغبة ملحّة في الانتحار لكن شيئاً ما كان يمنعهم فيكتفون حينها بتذكر الأشخاص الذين ماتوا قبل أن يصبح الموت مهنة قديمة في هذه البلدة!!

مرّت على هذه الحال سنواتٌ وسنوات أصبح للحاج ( س ) خلالها مصدر دخل لا بأس به، لكنّه اختفى في صباح إحدى الأيام ومع أنَّ جميع سكّان البلدة شاركوا في عملية البحث عنه إلا أنهم أخفقوا في العثور عليه فاضطروا لأن يخلعوا باب البقّالة لكن لم يجدوا شيئاً وفوجئوا باختفاء علب المراهم الصغيرة التي كان الحاج ( س ) يكدّسها على الرفوف العلوية في بقّالته فأصابتهم حالة من اليأس وسلّموا بالأمر الواقع وقررّوا نسيان الحاج ( س ) إلى الأبد..

وقد كان في البلدة طفل صغير لم يتجاوز الثامنة من عمره يثير شفقة أمه وغضبها في آنٍ واحد لأنه يقول لها كل ليلة: لماذا لا تريدين أن تصدقينني، لقد رأيت الحاج ( س ) يمشي في الشارع عارياً تماماً وهو يضحك بصوتٍ عالٍ ويمشي وهو يلطّخ جسده بمرهم الكآبة وظللت أتبعه إلى أن وصل إلى قمة الجبل المقابل، وهناك أخذ يضحك بصوت مرتفع وهو يربط حبلاً على شجرة السرو ثم عقد الحبل على عنقه وسقط إلى الأسفل وظلّ معلقاً… إن لم تصدّقيني تعالي معي غداً وسوف آخذك كي تشاهديه

هل أعجبك المحتوى ؟

من فضلك أضف تقييمك

متوسط التقييم 1 / 5. إجمالى التصويت: 2

لا يوجد تقييمات حتى الآن، كن أول من يقيّم.

الوسوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق